فك العُقدة عن إشكالات البُردة الجزء الثاني
( هل يعلم رسول الله علم اللوح والقلم ) ؟؟
وأما قوله : “ومن علومك علم اللوح والقلم” والذي استعظمهُ واستنكرهُ وشنع عليه بعض الناس، فإنني لا أريد من القارئ المنصف إلا التمعن في هذه الأحاديث:
1) جاء في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس رضي الله عنه أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أحفوه بالمسألة فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: [ سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم، فلما سمع القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر، قال أنس: فجعلت ألتفت يميناً وشمالاً فإذا كل رجل لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل من المسجد، كان يلاحى فيُدعى لغير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، عائذاً بالله من سوء الفتن ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:” لم أر كاليوم قط في الخير والشر، إني صورت لي الجنة والنار فرأيتهما دون هذا الحائط”. ]
2) وروى أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه قال:[ والله ما أدري أنسيَ أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا بإسمهِ واسم أبيهِ واسم قبيلته]
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى الذي خرجهُ الإمام أحمد في مسندهِ والدارمي والترمذي والطبراني – ومما جاء فيه … فعلمت ما في السموات والأرض وتلا : ]وكذلك نُري إبراهيمَ ملكوتَ السموات والأرض وليكون من الموقنين[ وفي رواية : فتجلى لي كل شيء وعرفت ، وفي رواية الطبراني: فعلمني كل شيء … إِلخ.
وهنا مُستمسك قوي على هؤلاء المعترضين الذين يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم [ كُل محدثةٍ بدعة وكُل بدعة ضلالة ] حيثُ قالوا إن كُل الواردة في الحديث تُفيد العموم ولا تفيد الخصوص وأن كُل بدعةٍ وبدون اي استثناء فهي ضلالة , و ذلك من اجل ان يفروا من قضية تقسيم البدعة والتي قال بها علماء الأمة وقرروا تقسيمها . وإنني اقول لهم حسناً ,إن كانت ( كُل ) من صيغ العموم لا من صيغ الخصوص كما زعمتم فإنكم كفيتمونا مؤنة الرد عليكم واقمتُم الحُجة على انفسكم من حيث لا تعلمون بأن النبي صلى الله عليهِ وسلم يعلم كُل شىء وأنهُ تجلى لهُ كُل شىء دون تخصيص كما في رواية الطبراني الآنفة الذكر ، واليس القائل ( كُل مٌُحدثةٍ بدعة …. ) هو نفسهُ القائل ( فعلمني كُل شيء …. ) ؟ . وجنت على نفسها براقش .
ومن الواضح أن الله سبحانه وتعالى أفاض على نبيهِ صلى الله عليه وآله وسلم من العلوم والمعارف مالا يعلمهُ إلا الله تعالى القائل له : ] وأنزل الله عليك الكتب والحكمة ، وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً[ النساء113. وما في الآية يدل على العموم والشمول، أي لتعم جميع العلوم التي علمها الله تعالى لرُسلهِ وأنبيائهِ صلوات الله وسلامهُ عليهم، ولتشمل غيرها من العلوم التي أفاضها الله سبحانه وتعالى عليه صلى الله عليه وآله وسلم .
فلقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه.
فما هو وجه الإشكال إن قال قائل: إن الله علّمه علم اللوح والقلم. ألست ترى النص النبوي الشريف يقول لك؟: فعلمني كل شيء، أو فتجلى لي كل شيءوعرفت. الخ . وأليس اللوح والقلم شيئين من هذه الأشياء ؟ يا سبحان الله كم من عقول تبادر إلى إنكار مالا تعرف فتقع في محاذير؟!
كان من الأولى لها أن تصون نفوسها عنها، ثم أليس معرفة الجنة والنار والإخبار عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة الجنة … الخ مما يزيد عما في اللوح والقلم ، الذي لم يكتب إلا ما سيكون إلى يوم القيامة ، أما ما بعد يوم القيامة فإن العلم بهِ علم بما ليس في اللوح والقلم… .
وما أجمل ما قالهُ محمد بن علاّن في شرح البردة حيثُ قال :-
والخمسُ التي استأثر الله تعالى بعلمها ليست بمكتوبة في اللوح المحفوظ إذ لو كان ما كُتب فيهِ لاطلع عليها بعضُ الملائكة الذين هُم من شأنهم الاطلاع عليها على ما فيه . وقد جاء في وصفهن ( لا يعلمهن إلا الله ) فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: [ أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ] وحينئذٍ فلا يُشكل على قول الناظم ومن علومك علم اللوح . اهـ كلامهُ رحمهُ الله
وهذا يسطدم مع قول ابن عُثيمين غفر الله لهُ(….. ولا أدري ماذا يبقى لله تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب ) .
واقول هل الملائكة هم أعلى منزلةً وقدراً من خير خلق الله صلى الله عليهِ وسلم ؟
فإذا شيخ الأسلام ابن تيمية رحمهُ الله قد اكرمهُ المولى بمثل هذا المقام من النظر الى اللوح المحفوظ كما يرويهُ عنهُ تلميذهُ ابن القيم كما في مدارج السالكين ج2 ص 489 حيثُ قال : [ لقد شاهدتُ من فراسة شيخ السلام ابن تيمية رحمهُ الله امور عجيبة ومالم اشاهدهُ منها اعظم واعظم ووقائع فراستهُ تستدعي سفراً ضخماً أخبر اصحابهُ بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تُكسر وأن دمشق لايكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وجدتهُ في الأموال وهذا قبل ان يهم التتار بالحركة ثم اخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك اكثر من سبعين يميناً فيقال لهُ قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقاً لاتعليقاً وسمعتهُ يقول ذلك فلما اكثروا علي قُلت لاتُكثروا كتب الله في اللوح المحفوظ انهم سيهزمون في هذهِ الكرة وان النصر لجيوش الإسلام قال واُطعمتُ بعض الأسراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم الى لقاء العدو وكانت فراستهُ الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر ]. اهـ
وهب أنهُ كتب في اللوح ما سيأتي بعد يوم القيامة ، ألا يدخل علم ما يكتب في قولهِ صلى الله عليهِ وسلم:
[ فتجلى لي كل شيء ، وعلمت ما في السموات والأرض…الخ ].
فغدا من الجلي الواضح أن ما أعطاهُ الله لرسولهِ صلى الله عليه وآلهِ وسلم من العلوم يفوق ما كُتب في اللوح مما خطهُ القلم.
أما استشكالهم الكبير حول قول البوصيري رحمهُ الله :
[اقسمتُ بالقمر المُنشقِ إن لهُ ***** من قلبهِ نسبةًٌ مبرورة القسمِ ]
فهذا إن دل فإنما يدل على حقيقة جهلهم باللغة العربية فيكفيهم لإيضاح هذا الاشكال جبلٌ من جبال المعرفة باللغة العربية وهو محمد علي بن علاّن الصدّقيّ المكيّ حيثُ قال في ( كتابهِ الذُخر والعدة في شرح البردة ) ص 207 حيثُ قال ( فإنهُ على تقدير مُضاف , أي بربَّ القمر ) .
وقرينة ذلك قولهُ تعالى ] وسئل القرية التي كُنا فيها والعير التي اقبلنا فيها وإنا لصدقون[ فهو ايضاً على تقدير مُضاف أي اسأل أهل القرية وأصحاب العير فإن القرية لاتتكلم وكذلك العير .
واقول إن من لديهِ فهمٌ في علمٌ في اللغة العربية غير هذا فليأتنا بهِ . نا هيك عن بن علاّن الذي شرح كتاب الأذكار للإمام النووي في سبع مُجلدات وكتاب رياض الصالحين في اربع مجلدات .
فإن قال قائل ان هذا قياس مع الفارق , فقول الله تعالى هو( إخبار ) وقول البُصيري هو( قسم ) . فأقول لاإشكال في ذلك لأن المقصود في كلا الحالتين لا ظاهرهما لأنهما جميعاً على تقدير مُضاف ’ فليس المراد في الأولى القرية والعير وفي الثانية القمر.
ثم ان القسم ينقسمُ الى ثلاثة اقسام وقبل التطرق لهذهِ الاقسام أود أن اذكر حروف القسم وهي :
الواو كقولك ( والله ) والبا كقولك ( بالله ) والتاء كقولك ( تالله )
أما الأنواع الثلاثة للقسم فهي :-
1- قَسَمٌ مُحرم [ وهو القسم الذي يُرادُ بهِ تعظيم المخلوق كتعظيم الخالق كما كان في الجاهلية ] .
2- قَسَمٌ مُباح [ وهو القسم الذي يُرادُ بهِ التأكيد كقول النبي صلى الله عليهِ وسلم للأعرابي ( أفلح وأبيهِ إن صدق ) ]
3- قَسَمٌ جائز [ وهو الذي يُرادُ بهِ تعظيمٌ يليقُ بالبشر كالقسم بالنبي صلى الله عليهِ وسلم ] .
فممن جوزّ الإقسام على الله بخلقهِ هو سلطان العلماء العز بن عبد السلام , فقد جاء في الفتاوي الموصلية ما نصهُ : [ أمَّا مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ رسول الله صلى الله عليهِ وسلم عَلّمَ بعض الناس الدعاء فقال في أولهِِ : ( قل اللهم إني أقسمُ عليكَ بنبيك محمد نبي الرحمة ) .
وهكذا نقلهُ أصحاب الخصائص كالحافظ السيوطي و القسطلاني و غيرهما مستدلين بهِ على أن الإقسام على الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم وانهُ من خُصوصياته .
وهذا هوالذي قررهُ ايضاً إمام اهل السنة والجماعة الإمام احمد بن حنبل رحمهُ الله . ومن استشكل عليهِ هذا الأمر فليستشكل على سلطان العلماء العز بن عبد السلام و السيوطي و القسطلاني و الإمام أحمد الذي جوز القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في ( منسكهِ الذي كتبهُ للمروزي ) , وممن قرر بأن هذا هو القول هو المعتمد عند الإمام احمد الإمام ابن قدامة المقدسي كما في ( المغني ) في باب الأيمان فقد اسهب في هذا القول اسهاباً كبير فليراجعهُ من شاء وكذلك ممن روى هذا الأثر عن الإمام احمد أبن مفلح في الفروع والانصاف للمروذي و كشف القناع لشيخ منصور البهوتي .
وكتاب المُغنى كم هو معلوم هو من الكُتب المعتمدة عند الحنابلة والذي قال فيهِ ابن باز رحمهُ الله تعالى : ( من أخذ بالمغني فقد استغنى ) .
واما الإشكال حول قول البوصيري رحمهُ الله :
[ وكيف تدّعو إلى الدنيا ضرورةُ مَنْ ***** لولاهُ لم تُخرجِ الدنيا مِنً العدمِ ]
فقد روى عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليهِ وسلم ( لما اقترف آدم الخطيئة قال : يارب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي فقال الله يا آدم كيف عرفت محمداً ولم اخلقهُ ؟ قال : يارب إنك لما خلقتني رفعتُ رأسي فرأيتُ على قوائم العرش مكتوباً لا اله إلا الله محمدٌ رسول الله , فعلمتُ انك لم تُضف إلى اسمك إلا احب الخلق اليك , فقال الله تعالى صدقت يا آدم إنهُ لأحب الخلق إليّ , وإذا سألتني بحقهِ غفرتُ لك ولولا محمد ما خلقتك ).
وهذا الحديث اخرجهُ البيهقي في دلائل النبوة (5/489 ) , والحاكم في المستدرك ( 2/615 ) وصححهُ , والطبراني في الأوسط ( 6498 ) , وذكرهُ الهيثمي في مجمع الزوائد ( 13917 ) . وقد حقق الإمام تقي الدين السبكي في كتابهِ ( شفاء الأسقام ) أن هذا الحديث لاينزلُ عن درجة الحَسن .
وقد قال الله تعالى: ] والأرض وضعها للأنام [ ( والأنام هم الخلق وأفضلهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن باب أولى أنها له صلى الله عليه وآله وسلم وقال تعالى: ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً [.
ثم إن الدنيا والآخرة وجدتا من أجل رسالة الإسلام، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمثل هذا الإسلام، بل هو الإسلام الفعلي الواقع والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض .
ثم إن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، كما جاء في الحديث الشريف، فلا يرضى الله عز وجل أن تكون الدنيا كل ما أعطي لحبيبه صلى الله عليه وآله وسلم.
وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج11ص97
ولمحمد علي بن عَلاّن الصدّقيّ المالكي رحمهُ الله تحقيقٌ لغويٌ بليغ لهذا البيت الذي يقول فيهِ البوصيري :
[ وكيف تدّعو إلى الدنيا ضرورةُ مَنْ ***** لولاهُ لم تُخرجِ الدنيا مِنً العدمِ ]
حيثُ قال في كتابهِ الذخر والعدة في شرح البردة ( ص 145 ) ما نصهُ :- [ وكيف يتصور أن تدعوا إلى اتّباع الدنيا وزينتها , ضرورة من لولاهُ لم تُخرج الدنيا من العدمِ إلى الوجود بعد أن لم تكن . هذا مراده , لكن في لفظهِ تجوّز . فإن قولهُ تخرج يُهم أنها ( اي الدنيا ) كانت في العدم شيء . وحقيقتهُ إنّما انتفى عنها الخروج من العدم إلى الوجود . ومذهب أهل الحق أنهُ لا وجود للمعدوم حال العدم , وأنهُ ليس بشيٍ , وإذا ثبت أن وجودهُ – صلى الله عليهِ وسلم – علّة وجود الدنيا , فَالدنيا بأجمعها مُفتقرةٌ اليه , لافتقار وجودِ المعلول إلى وجود علته . فلو كانت ضرورتُهُ تدعو إلى الدنّيا لكان وجودهُ – صلى الله عليهِ وسلم – معلولاً لوجودها وافتقر – صلى الله عليهِ وسلم – في وجودها إلى وجودها , ولأن العلة لا تفتقر في وجودها إلى وجود المعلول ]. اهـ
ويؤيد هذا المعنى الراقي في فهم قواعد اللغة العربية , قول البوصيري رحمهُ الله في البيت الذي قبلهُ حيثُ قال :-
[ واكّدت زهدهُ فيها ضرورتهُ ***** إن الضرورة لا تعدو على العصمِ ]
فلقد أخرج أبو يعلى بإسناد حسَّنه الهيثمي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : [ يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب ]
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفض الدنيا بما فيها زاهداً فيها فضلاً عن تملكها ثم الجود بها، والأحاديث في هذا متوافرة.
وإلى هُنا اكتفي بهذا الرد المُختصر المُجز لإيضاح بعض الإشكالات عند بعض الجهلة المتطاولين على علماء الأمة وسلفها الصالح .
وصلى الله على سيدنا وإمامنا وملاذنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم .
كتبها / عبدالله أبن الشيخ أبي بكر بن سالم الشافعي
______________
تم بحمد الله
منقوووووول