اعلم-يا رعاك-أن مراد الشافعي، من قوله: “حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويُنادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام” [1]، وغيره؛ هو علم الكلام المذموم، الذي يستعمله المعتزلة، وأهل الباطل، وليس كما فهمه الحشوية أنه ذم علم الكلام هكذا مطلقاً!!
ويدل على ذلك، ما قاله الإمام البيهقي-رضي الله عنه-: “أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو الحسن: محمد بن عبد الله ابن محمد العمري، قال: حدثنا أبو بكر: محمد بن إسحاق قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول:” أتيت الشافعي بعد ما كلم حفصا الفرد، فقال: غبت عنا يا أبو موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط، ولان يبتلى المرء بجميع ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه الله بالكلام “.[2]
وقال الذهبي -رحمه الله- : “كان الشافعي بعد أن ناظر حفصا الفرد يكره الكلام، وكان يقول: والله لأن يُفتي العالم فيقال: أخطأ العالم، خير له من أن يتكلم فيقال: زنديق، وما شيء أبغض إليّ من الكلام وأهله“.[3]
وحفص الفرد كان معتزلياً، فيفهم من كلام الشافعي-رضي الله عنه-أنه يقصد علم الكلام المعتزلي، ونحن نقول في علم الكلام الذي يستعمله المعتزلة كما قال فيه الشافعي-رضي الله عنه- وقد قال البيهقي-رحمه الله-: ” إنما أراد الشافعي رحمه الله بهذا الكلام حفصا وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراده بكل ما حكي عنه في ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه، وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على مراده:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن حبان، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن زياد، قال: سمعت أبا الوليد بن الجارود يقول: دخل حفص الفرد على الشافعي، فكلمه، ثم خرج إلينا الشافعي، فقال لنا: لان يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول بخلق القرآن.
وهذه الروايات تدل على مراده بما أطلق عنه فيما تقدم وفيما لم يذكرها هنا، وكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموما عنده، وقد تكلم فيه، وناظر من ناظره فيه، وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الاهواء شيئا مما هم فيه “.[4]
والبيهقي-رحمه الله-كان أعلم الناس بالشافعي وبكلامه.
وقال الإمام القرافي:» وَعَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْ وَجَدْتُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَضَرَبْتُهُمْ بِالْحَدِيدِ قَالَ لِي بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِي تَحْرِيمُ الِاشْتِغَالِ بِأُصُولِ الدِّينِ.
قَلَتُ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ الْيَوْمَ فِي عُرْفِنَا إِنَّمَا هُوَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَلَمْ يُدْرِكُوا الشَّافِعِيَّ وَلَا تِلْكَ الطَّبَقَةَ الْأُولَى إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَانِ الشَّافِعِيِّ عمر ابْنُ عَبِيدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَلَوْ وَجَدْنَاهُمْ نَحْنُ ضَرَبْنَاهُمْ بِالسَّيْفِ فَضْلًا عَنِ الْحَدِيدِ فَكَلَامُهُ ذَمٌّ لِأُولَئِكَ لَا لِأَصْحَابِنَا وَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْقَائِمُونَ بِحُجَّةِ اللَّهِ وَالنَّاصِرُونَ لِدِينِ اللَّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَظَّمُوا وَلَا يُهْتَضَمُوا لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ بِفَرْضِ كِفَايَةٍ عَنِ الْأُمَّةِ فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَرْضُ كِفَايَةٍ، قَالَ لِي ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ : يَكْفِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
قُلْتُ لَهُ : فَمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُمَا كَيْفَ تُقَامُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ بِهِمَا فَسكت “.[5]
ثم إن الشافعي -رضي الله عنه-قد استعمل علم الكلام، فالشافعي -رضي الله عنه- ناظر حفصا الفرد في علم الكلام والتوحید، وأثبت له بطلان مذهبه ثم كفره.[6]
وقد قال الإمام الشافعي : ” كل متكلم بالكتاب والسنة فهو الجدّ وما سواه فهو ھذيان” [7].
فهذا نص صريح للشافعي، يدل على أنه فرق بين علم الكلام المذموم وعلم الكلام المحمود !
ثم إن البيهقي-رحمه الله-قد أورد ما يدل على أن الشافعي-رضي الله عنه-كان من أحكم الناس بهذا العلم، فقد قال: “وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرني نصر بن محمد الصوفي، قال: سمعت عبد الرحمن بن حفص يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: سمعت ابن بَحْرٍ يقول: سمِعتُ المُزَنِي يقول : دارَ بيْنِي وبيْن رجُلٍ مُناظرةً ، فسَألنِي عن كلامٍ كادَ يُشَكِّكُنِي في دِينِي ،فجِئْتُ الى الشَّافِعي فقُلتُ له : كانَ مِنَ الأمْرِ كَيْتَ وكيْتَ ،قال : فقال لي : أينَ أنتَ ؟ فقلتُ : أنا في المسْجدِ ،فقال لي : أنْت في مِثلِ ” تَارَان ” تَلْطمُكَ أَمْوَاجُه ،هذِه مسألةُ المُلحِدينَ ، والجوابُ فيها كيْتَ وكيْتَ ، ولأَنْ يُبتلى العبْدُ بِكلِّ ما خَلَقَ اللهُ مِنْ مَضَارِّهِ خيْرٌ له مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالكَلَام“.[8]
وقال البيهقي: “وقرأت في كتاب أبي نعيم الأصبهاني حكاية عن “الصاحب بن عباد” أنه ذكر في كتابه بإسناده عن إسحاق أنه قال: قال لي أبي: كلّم الشافعي يوماً بعض الفقهاء؛ فدقَّق عليه وحقَّق، وطالب وضيَّق، فقلت له: يا أبا عبد الله. هذا لأهل الكلام، لا لأهل الحلال والحرام. فقال: أحكمنا ذاك قبل هذا “[9].
فتأمل-أخي القارئ الكريم- هذا النص الواضح المبين، من الإمام الشافعي-رضي الله عنه!.
ومن ثم قد ورد عن بعض أئمة أھل العلم قالوا بذم علم الحديث!.
ومن هذه الآثار ما قاله شعیب بن حرب: كنا عند سفیان الثوري يوما فتذاكرنا الحديث، فقال لو كان في ھذا الحديث خیر لنقص كما ينقص الخیر، ولكنه شر فأراه يزيد كما يزيد الشر“[10].
وقال سفیان الثوري أيضا: “لیس طلب الحديث من عدد الموت، ولكنه علة يتشاغل به الرجل” [11].
وقال حماد بن سلمة: “ما رأيت علما أشرف ولا أھلا أسخف من أھل الحديث” [12].
فكيف يكون علم الكلام مذموماً ولا يجوز الاشتغال به، لأنه ورد عن السلف ذلك، بينما يجوز الاشتغال بعلم الحديث، مع أنه أيضاً قد ورد عن بعض السلف ذمه؟ !
والله المستعان..
[1] مناقب الشافعي ج1ص462
[2] مناقب الشافعي ج1ص454
[3] سير أعلام النبلاء ج 10 ص 19.
[4] مناقب الشافعي ج1ص454.
[5] الذخيرة ج13 ص243.
[6] انظر سیر أعلام النبلاء ج10 ص29-28.
[7] سیر أعلام النبلاء ج10 ص20.
[8] مناقب الشافعي ج1ص458.
[9] مناقب الشافعي ج1 ص457.
[10] رواه الخطیب في شرف أصحاب الحديث ص123 وابن عبد البر في جامع بیان العلم 989 وابن الجعد في مسنده “1818” ص274 وأبو نعیم في الحلیة ص6 ج 369.
[11] رواه أبو نعیم في الحلیة ج6 ص 364، وابن عبد البر في جامع بیان العلم 1007.
[12] رواه الخطیب في الجامع ج11 ص118.