قال الشهرستاني:
العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه، تارةً إخباراً عن أُمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتداها إلى منتهاها على وفق ثبوتها، وتارةً حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير وجودهم ومشاهدتهم، ثمّ يعبّر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة، وتارةً نطقاً عقلياً إمّا بجزم القول أنّ الحقّ والصدق كذا، وإمّا بترديد الفكر أنّه هل يجوز أن يكون الشيء كذا أو يستحيل أو يجب، إلى غير ذلك من الأفكار حتّى أنّ كلّ صانع يحدث نفسه أوّلاً بالغرض الذي توجهت إليه صنعته، ثمّ تنطق نفسه في حال الفعل محادثة مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر، ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة، وباهَتَ العقل، وأنكر الأوائل التي في ذهن الإنسان، وسبيله سبيل السوفسطائية، كيف وإنكاره ذلك ممّا لم يدر في قلبه ولا جال في ذهنه، ثمّ لم يعبّر عنه بالإنكار ولا أشار إليه بالإقرار، فوجد أنّ المعنى معلوم بالضرورة وإنّما الشكّ في أنّه هو العلم بنفسه أو الإرادة والتقدير والتفكير والتصوير والتدبير، والتمييز بينه و بين العلم هين، إذ العلم تبين محض تابع للمعلوم على ما هو به، وليس فيه إخبار ولا اقتضاء وطلب، ولا استفهام ولا دعاء ولا نداء، وهي أقسام معلومة وقضايا معقولةوراء التبيين،والتمييز بينه و بين الإرادة أسهل وأهون، فإنّ الإرادة قصد إلى تخصيص الفعل ببعض الجائزات(الممكنات) ولا قصد في هذه القضايا ولا تخصيص، وأمّا التقدير والتفكير والتدبير فكلّ ذلك عبارات عن حديث النفس، وهو الذي يعنى به من النطق النفساني، ومن العجب أنّ الإنسان يجوز أن يخلو ذهنه عن كلّ معنى ولا يجد نفسه قط خالياًعن حديث النفس حتى في النوم فإنّه في الحقيقة يرى في منامه أشياء وتحدّث نفسه بالأشياء ولربما يطاوعه لسانه وهو في منامه حتّى يتكلّم وينطق متابعة لنفسه فيما يحدث وينطق.
نهاية الإقدام للشهرستاني، ۳۲۱-۳۲۲.
قال الباقلاني:
ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة والأثر وكلام العرب؛ ما نذكر فمن ذلك قوله تعالى: “إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول اللّه واللّه يعلم إنك لرسوله واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون” ونحن نعلم وكل عاقل أنه تعالى ما كذب المنافقين في ألفاظهم، وإنما كذبهم فيما تكنه ضمائرهم وتكنه سرائرهم.
وأيضاً قوله تعالى مخبراً عن الكفار: “ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا اللّه بما نقول حسبهم جهنم” فأخبر تعالى: أن القول بالنفس قائم وأن لم ينطق به اللسان، والقول هو الكلام، والكلام هو القول.
وأيضاً قوله تعالى: “يعلم السر وأخفى” قيل ما حدث به المرء نفسه مما يضمر فيها من قول أو فعل.
وأيضاً قوله تعالى: “يعلم ما في أنفسكم فاحذروه”
وأيضاً قوله تعالى: “إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان” فأسقط تعالى تلفظ المنافقين بالشهادة لرسوله، وجعل حكم الكذب للقول الذي في النفس والكلام الذي في النفس دون نطق اللسان، وأسقط حكم الكفر عن المكره على كلمة الكفر وجعل الحكم لصدق الكلام القائم في القلب؛ فدل بهذه الآيات وما جرى مجراها أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وله الحكم في الصدق والكذب دون الحروف والأصوات التي هي أمارات ودلالات على الكلام الحقيقي.
ويدل على ذلك من جهة السنة قوله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه”. وهذا في حق المنافقين، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الكلام الحقيقي هو الذي في القلب دون نطق اللسان، وأن الحكم للكلام الذي في القلب على الحقيقة وأن قول اللسان مجاز قد يوافق قول القلب وقد يخالفه.
وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: “الندم توبة” فأخبر صلى الله عليه وسلم أن العاصي إذا نوى بقلبه الندم على المعصية منها أن ذلك حقيقة التوبة، وأن استغفار اللسان تبع لذلك، فصح أن الكلام الأصلي الحقيقي المعنى القائم بالنفس.
وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى. “إذا ذكرني عبدي في نفسه” فأثبت الذكر للنفس، فالذكر والقول، والكلام، واحد، فعلم أن حقيقة الكلام المعنى القائم في النفس.
ويدل على ذلك أيضاً قول عمر رضي الله عنه: “زورت في نفسي كلاماً” فأتى أبو بكر فزاد عليه. فأثبت الكلام في النفس من غير نطق لسان، وعمر كان من أجل أهل اللسان والفصاحة وهو أحد الفصحاء السبعة، والعربي الفصيح يقول كان في نفسي كلام، وكان في نفسي قول، وكان في نفسي حديث، إلى غير ذلك.
الإنصاف للباقلاني، ص١٦٢.
قال أبو عمر الجاوي:
ومما يدل على أن كلام الله نفسي اختلاف ألفاظه مع اتحاد الحادثة. قال تعالى في سورة الأعراف: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟) وفي سورة صٓ بلفظ: (يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ؟) مع أن الحادثة واحدة، فاختلاف الألفاظ مع اتحاد الحادثة يدلان على أن الكلام الحقيقي هو الكلام النفسي.
وفي سورة البقرة قال: (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) وفي سورة الأعراف بلفظ: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)
وقال إبراهيم حين يدعو ربه، كما في سورة البقرة: (رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وفي سورة إبراهيم بلفظ: (رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) مع أن الحادثة واحدة. فهذا يدل على أن الكلام الحقيقي هو الكلام النفسي، والله أعلم.