فك العُقدة عن إشكالات البُردة الجزء الأول
إخوتني أنقل لكم هذا الشرح الراقي لبعض ما أُستشكل من ابيات جاءت في قصيدة البردة
للشيخ / عبدالله أبن الشيخ أبي بكر بن سالم الشافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على إمامنا وشفيعنا وملاذنا يوم الدين , سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين وعلى آلهِ وصحبهِ الغرِ الميامين
أما بعد :-
فإن هذا مُلخصٌ للدفاع عن أعراض وعقائد رجال الحق من علماء الأمة وسلفها الصالح ممن طعن فيهم من بعض المتعالمين بعلم من قال عنهُ عليه الصلاة والسلام ( صَدَقَكَ وهو كذوب ) المُتلبسين بصورةٍ يظنون أنها حقيقة التوحيد وهي في الأصل سراب مجرد من أي توحيد, الذين أرادوا أن ينزهو المولى القدير ، فوقعوا من حيث لايشعرون في حقهِ سبحانهُ وتعالى بما يُفضي إلى الكفر وسئ المصير ، وأرادوا تعظيم النبي ذو القدر الجليل فوضعوا من قدرهِ بكلامٍ مفلسٍ من الحجةِ والدليل ، وخاصة من أناسٍ يُشار إليهم بالبنان بأنهم من أهل العلم والجرح والتعديل !
مستفتحاً هذا الرد والتعقيب بحمد الله القريب المجيب .
فأقول :-
إن قصيدة البردة أو المسماة أيضاً بـ ( البُرأة ) للإمام محمد ابن سعيد البوصيري المولود سنة 608هـ رحمهُ الله تعالى رحمةًً واسعة لم تكن وليدة هذا العصر الذي يكادُ أن يكون جُل بل كُل علمائهِ هم من العالة المتطفلين على علماء الأمة من السلف الصالح رضي الله عنهم .
فإن الإمام البوصيري رحمهُ الله تعالى ألف هذهِ القصيدة في أوائل القرن السابع الهجري أي أن لها ما يُقارب الثمانمائة سنة هجرية .
فكم من عالمٍٍ من علماء الأمة الذين لهم ثقلهم مروا بهذه الحقبة الزمنية ومرت على آذانهم هذه القصيدة العصماء وهم مابين مُفسرٍ وفقيهٍ ومحدثٍ ومؤرخ وحافظٍٍ وغيرهم من علماء العلوم الشرعية .
ومن هُنا أطلقُ عنان القلمِ قائلاً :ــ
إن القول على البوصيري بالشرك لإيراده أبيات يظنها بعض الناس أنها شرك ينجرُ بلا شكٍ ولا ريب على كل عالمٍ من علماء الأمة اللذين شرحوا هذه القصيدة شرحاً لغوياً وافياً مُتلقين لها بالإستحسان والقبول .
وقبل الإسترسال في الكلام أودُ أن أُبين لكلِ قارئ مُنصفٍ يخشى الله ويتقيهِ مَنْ هم الذين شرحوا هذهِ القصيدة وما هي مكانتهم بين علماء المسلمين؟ حتى يتبين لهُ من هو المخطئ من المصيب وذلك بعد أن يضع هؤلاء العلماء في كفة ويضع الطرف الآخر المتطاول على هذه القصيدة بجهلهِ في الكفة الأخرى .
فأولهم: المُحدث الكبير الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني المتوفى سنة 923، وهو صاحب كتاب ( إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ) وكتاب ( المواهب اللدنية بالمنح المحمدية ) وسمى شرحهُ على البردة ( الأنوار المُضية في شرح الكواكب الدُرية ) .
والثاني: ــ : الإمام الحافظ المحدث الفقيه نور الدين مُلا علي قاري الحنفي صاحب كتاب ( الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ) وكتاب ( المِنح الفكرية على متن الجزرية ) وكتاب ( المورد الروي في المولد النبوي )وكتاب( شرح الفقه الأكبر ) المتوفى سنة 1014
والثالث: ــ جلال الدين المحلي المتوفى سنة 864 هـ وهو صاحب كتاب ( تفسير الجلالين ) و كتاب ( شـرح الـورقات في أصول الفقه ) وهو شيخ الحافظ جلال الدين السيوطي رحمهُ الله الذي أكمل تفسير الجلالين بعد وفاته.
الرابع : العلامة الكبير الزركشي محمد ابن بهادر صاحب كتاب ( النكت على مقدمة ابن الصلاح ) و كتاب ( البرهان فى علوم القرآن ) المتوفى سنة 794 هـ .
الخامس : الإمام اللغوي خالد الأزهري مؤلف كتاب ( التصريح على التوضيح ) وكتاب ( تهذيب اللغة ) وكتاب (موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب ) المتوفى سنة 905هـ .
السادس : – الشيخ الباجوري صاحب كتاب ( شرح جوهرة التوحيد ) المتوفى سنة 1276هـ
السابع :- الإمام النحوي ابن هشام الحنبلي المتوفى سنة761هـ فقد شرح قصيدة البردة شرحاً لغوياً سماهُ بـ ( الكواكب الدرية )
الثامن :- محمد بن أحمد ابن مرزوق التلمساني صاحب كتاب ( مفتاح الوصول الى بناء الفروع على الاصول )المتوفى سنة 842 هـ .
التاسع :- ابن العماد صاحب كتاب ( شذرات الذهب ) المتوفى سنة 808 هـ .
العاشر : – شيخ الإسلام القاضي زكريا بن محمد الأنصاري المتوفى سنة 926هـ وسماهُ ( الزبدة الرائقة في شرح البردة الفائقة ) .
الحادي عشر:- محمد علي بن علاَّن الصدّيقي المكي صاحب كتاب ( الذخر والعدة في شرح البردة )
الثاني عشر : ابن الصائغ المتوفى سنة 776 هـ .
الثالث عشر:- علاء الدين البسطامي المتوفى سنة 875 هـ.
الرابع عشر : محمد بن عبد الله بن مرزوق المالكي المغربي المتوفى سنة 781 هـ
الخامس عشر : – الشيخ القاضي بحر بن رئيس الهاروني المالكي .
السادس عشر : – علي القصاني المتوفى سنة 891 هـ .
السابع عشر :- أحمد بن حجر الهيتمي وسماهُ ( العمدة في شرح البردة )
وغيرهم الكثير مما لايتسع المجال لحصرهم .
فيا أمة التوحيد هل هؤلاء العلماء أهل المعرفة باللغة العربية والذين خدموا السنة المطهرة لم يعوا ولم يتفطنوا للأبيات التي يزعم المتطاول الجاهل باللغة العربية أنها شركية ومن أجل ذلك شنّ هذهِ الحرب الشعواء على هذهِ القصيدة ؟
وهنا ملحظٌ هام يجب التنبيهُ اليهِ وهو :
إما أن هذا المنتقد فهم وعلم بما تكتنفهُ جوانبهُ من علوم اللغة العربية مالم يفهمهُ ويعلمهُ هؤلاء العلماء الذين شرحوا هذهِ القصيدة !
وإما أن هؤلاء العلماء علموا وعرفوا أن في هذه القصيدة أبياتً شركية ولكن اطمئنت نفوسهم اليها وأقرّوها فأصبحوا من دعاة الشرك ولذلك تفننوا في شرحها ونشروها بين الناس !
ومن هنا ابتدئ بذكر الأبيات التي كانت السبب في ادعاء من ادعي من إخواننا هداهم الله أنها شركية وأقام الدنيا وأقعدها ، والتي سوف تبين لك أخي القارئ افتقار هذا المدّعي لأبسط مبادئ اللغة العربية ، مستعينا بالله فأقول: ــ
قال البوصيري رحمهُ الله :- يا أكرم الخلق مالي من ألوذ بهِ : سواك عند حلول الحادث العممِ
وقال ايضاً :- فإن من جودك الدنيا وضرتها : ومن علومك علـم اللوح والقلمِ
وقبل أن اتطرق للشرح أود أن أبين مسألة مهمة في العقيدة … يجب فهمُها على الوجهِ الصحيح
لأن بعض من ينتسب الى العلم ! سامحهُ الله وغفر لهُ قال ما نصهُ :-
[ مثل هذهِ الأوصاف لا تصح إلا لله – عز وجل – وأنا أعجب لمن يتكلم بهذا الكلام إن كان يعقل معناهُ كيف يسوّغ لنفسهِ أن يقول مُخاطباً النبي – عليه الصلاة والسلام – فإن من جودك الدنيا وضرتها. (ومن) للتبعيض، والدنيا هي الدنيا وضرتُها هي الآخرة، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام – وليس كل جودهِ فما الذي بقي لله عز وجل ؟ ما بقي لهُ شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة وكذلك قولهُ : ومن علومك علم اللوح والقلم . (ومن) هذه للتبعيض ولا أدري ماذا يبقى لله تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب؟. ] اهـ كلام المعترض هداهُ الله .
وقبل أن أخوض في الرد التفصيلي على تلك الشبهات و الإثارات نتساءل:-
هل علم الله تعالى محدود ؟ هل جودهِ وكرمهُ محدودان ؟ هل كُل ما في اللوح المحفوظ هو كُل مافي علم الله تعالى ؟
تساؤلات يجب على كل منصف الأجابة عليها .
الجواب على هذه الأسئلة والذي يتبادر إلى ذهن عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم ، أن الله تعالى لا نهاية لكمالهِ ولا حدود لصفاتهِ ، لأنهُ ليس كمثلهِ شي وهو السميع البصير فكل من اعتقد المحدودية في ذات الله تعالى أو في صفاتهِ ، أو حَصَر علم الله في شيء مخلوق كاللوح والقلم فقد أخطأ الصراط المستقيم واتبع السُبل، لأنهُ هدم أعظم ركن من أركان الإسلام وهو التوحيد الذي يقتضي تقديس الله تعالى عن مشابهة المخلوقات في ذاته وصفاته وأفعالهِ.
( بيان خطر ذلك على العقيدة )
وهنا يقف الإنسان مُندهشاً أمام هذا الكلام، و الاعتقاد الخاطئ , فَمنْ وصف صفات الله عز وجل بالتناهي والحد ، فقد أساء إساءة كبيرة وخطيرة تمسُ العقيدة الإسلامية.
وتأملوا هذا القول الخطير للمعترض هداهُ الله إذ يقول :[ فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام وليس كل جوده ، فما الذي بقي لله عز وجل ؟ ما بقيله شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة ]
لعلكم أدركتم خطورة هذا الفهم للصفات الإلهية.
وخطورةُ هذا الكلام – لمن لم يدرك حتى الآن مكمن الخطورة فيه – تكمن في تحديد دائرة الجود والكرم الإلهي في نطاق الخلق، وهذا يدل على محدودية صفة الجود، والحد من تعلق هذه الصفة في الجائزات يُفضي إلى تصور الحصر في الذات الإلهية، وهذا يتنافى مع تنزيه الخالق سبحانهُ وتعالى، ويتنافى مع ما يجب اعتقاده من كمال الله عز وجل، الذي لا يحدُ كرمهُ، ولا يُحصر جودهُ ، ولا يعجزهُ إيجاد مسالك لكرمهِ وجودهِ.
ولا أدري؟ كيف يفهم المعترض قول الله تعالى كما ورد في الحديث القدسي الجليل، الذي خَرَّجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وفيه :- [ لو أن أولكم و آخركم و إنسكم وجنكم، قاموا على صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كُل واحدٍ مسألتهُ ما نقص ذلك من مُلكي إلا كما ينقُص المخيط إذا أدخل البحر].
ونقص المخيط من البحر هو من باب التمثيل، للتقريب للأذهان، وإلا فلا نسبة هُنا وإن دقت – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
فَتَوَهُّمُ أن الجود الإلهي مُنحصر في الدنيا والآخرة فقط ، مُعارض لأمثال هذا النص المتقدم ، الذي يفيد:
أن جود الله لا يتناهى، ولا يُحد، ولا يُعد ، وإذا كانت الدنيا والآخرة – وهما مما يُتصور من سؤال الإنس والجن – لا تُنقصان ملك الله عز وجل إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر فكيف يصحُ لمسلمٍ أن يفهم أن الجود والكرم الإلهي محدودٌ بهما ؟ وأين باقي هذا البحر الذي لم يذهب منهُ إلا ما أنقصهُ المخيط ؟
سبحان الله وتبارك وتقدس أن يُحد جودهُ وكرمهُ ، أو أن يُماثلهُ شيء من خلقهِ.
( الخطأ في تصوّر العلم الإلهي و تحديدهُ )
قول المعترض هداهُ الله في معنى البيت الثاني :- [ ومن علومك علم اللوح والقلمِ .. ولا أدري ماذا يبقى لله تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب] اهـ كلام المعترض .
وهذا كلام خطير جداً يمس جانب العقيدة مساً واضحاً بيناً، لأن الله تعالى لا يُحدُ علمُهُ ولا يُحاطُ بهِ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً… فعلمهُ سبحانهُ المتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات، لا يوصف ببداية ولا ينعت بنهاية ، ولا تحدهُ غاية، سبحان الله عما يصفون ويتوهمون.
ومنشأ هذا الخطأ هو تصوّره أن علم الله تعالى محدود باللوحِ والقلم أو الدنيا والآخرة؟!
ولا أدري كيف يتصور عاقل فطن أن اللوح والقلم، وهما مخلوقان من خلق الله يستوعبان كل علم الله تعالى ، فيحصر بهذا التصور العلم والقدرة الإلهيين فيهما.
فسبحان الله، لعلكم نسيتم قصة الخضر الثابتة في الصحيح: …… فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما ، فعُرِف الخضرُ فحملوهما بغير نول، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر : يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر… الحديث.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ” وقد وقع في رواية ابن جريج بلفظ أحسن سياقاً وهو:
[ ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر ].
وهذا من باب إيضاح المعنى بالمثال ، وإلا فعلمُ الله لا يُحد كما يُحد البحر مهما عظُم واتسع . يقول ربنا عز وجل: ] قل لو كان البحرُ مداداً لكماتِ ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلماتُ ربي ولو جئنا بمثله مدداً[
وهنا يتبادر إلى عقل المسلم السؤال التالي:
إن كان علم الله كُلهُ محصور باللوح والقلم كما هي دعوى المعترض فأين كان علم الله قبل خلقهما ؟ وهل الله سبحانهُ وتعالى لم يكن يعلم شي قبل خلقهما ؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا . فهو سبحانهُ وتعالى لا يُوصف بأين ولا يُنعت بكيف. ثم ألم يتفطن إلى أن حصر العلم في المتناهي من صفات علم المخلوقين وهذا تشبيه للباري بخلقهِ ؟ وهو يعلم خطورة التشبيه في العقيدة الإسلامية وموقف علماء الإسلام من المشبهة.
]إن الله كان بكل شيء عليماً[النساء 32 وقوله تعالى:] وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً [الإسراء 36
واللوح والقلم شيئان من الأشياء الكثيرة التي خلقها الله تعالى … وكأنما غفلتم عن قولهِ عليهِ الصلاة والسلام:[ إن أول ما خلق الله القلم فقال لهُ : اُكتب فقال : رب وماذا أكتب؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة] .
ومن الواضح أن ما بعد يوم القيامة من عوالم لم يُسجلها القلم كما يُفهم من هذا الحديث، فما المانع أن يُطلع الله من يشاء من خلقهِ على هذهِ العوالم التي لم يُسجلها القلم، ولم تُحفظ في اللوح المحفوظ، ولا سيما حبيبهُ ورسولهُ وخاتم الأنبياء صلى الله عليهِ وآلهِ وسلم وخاصة أن نصوصاً كثيرة جاءت لتكشف عن ذلك وسيأتي ذكرها.
والمشكلة هُنا أنهم يخلطون بين الأسباب ومسبباتها، ولا يفرقون بين السبب الظاهر والسبب الخفي، ويغفلون عن أن الله تعالى ربط الأسباب بالمسببات.
والعجب أنهم يتناقضون بفتوى أخرى يُقرونها و هي جواز قول [ الله ورسولهُ أعلم ] لأن علم الرسول من علم الله، فالله تعالى هو الذي يُعلِّمه ما لا يدركهُ البشر، ولهذا أتى بالواو.
( توضيح الأبيات كما فهمها العلماء الثقات )
والآن ماذا يعني البوصيري رحمه الله تعالى بهذه الأبيات ، وهل كفر من أُعجب بقصيدته وأحبها ؟
كما يعتقد ذلك بأنه من الغلو بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤدي إلى الشرك الأكبر المخرج عن الملة الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه يحارب الناس عليه، ويستبيح دماءهم وأموالهم و دراريهم فإننا نسمع من يقول أنهُ يُلقى في هذه الاحتفالات من القصائد ما يُخرج عن الملة قطعاً كما يرددون قول البوصيري يا أكرم الخلق…” ثم ذكر الأبيات المتقدمة!!!
ونحنُ نقول إن العشرات من الأعلام والعلماء الراسخين في العلم شرحوا هذه القصيدة وتفننوا في شرحها كما ذكرتُ في مقدمة هذا التعقيب . فهل كلهم دعاة إلى الشرك الأكبر؟ نسأل الله العافية والسلامة
وقانا الله مزالق الردى، وحفظنا من سبق الوهم ، ورسوخهِ في النفس ، وعافانا من الشذوذ عن السواد الأعظم لهذه الأمة.
أما قولهِ : يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به : سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي : إذا الكريم تجلـى بـاسم منتقـم
قال الشيخ العلامة اللغوي النحوي خالد الأزهري صاحب كتاب تهذيب اللغة وهو من فطاحلة اللغة العربية شارحاً هذا البيت حيثُ يقول:-
يا أكرم كُل مخلوق مالي غيرك ألتجئ إليهِ يوم القيامة من هولهِ العميم، والخلق متطلعون إلى جاهك الرفيع ، وجنابك المنيع، ولن يضيق بي جاهُك يا رسول الله إذا اشتد الأمر وعيل الصبر وانتقم الله تعالى ممن عصاه ….
والناظم هنا يتحدث عن موقف المقام المحمود الذي يقفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما تدنو الشمس من الخلائق، ويطول الأمر بالناس وهم في خوف وضجر وقلق شديد، حتى يتمنى الكفار أن يُذهب بهم ولو إلى النار، فيلجأون إلى الأنبياء بدءاً من آدم ثم نوح فإبراهيم فموسى فعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكلهم يعتذر، ويأبى الشفاعة ، ولا تهمهُ إلا نفسهُ في ذلك الموقف ثم يلجأون إلى سيدنا محمد صلى الله عليهِ وآلهِ وسلم فيقول : أنا لها.
والشاعر يذكُر رسول الله بهذه الخُصوصية الجليلة العظيمة التي دلت عليها الأحاديث الصحيحة وفي الحديث: [ فيلهمني الله محامد لا أقدر عليها الآن فأحمده بتلك المحامد، ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه واشفع تشفع ] الحديث.
والشاعر البوصيري رحمه الله يذكر الشفاعة الكبرى التي دلت عليها الأحاديث الصحيحة وهي خاصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك أنواع أخرى من الشفاعات الخاصة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم غير هذه الشفاعة لا مجال هنا للحديث عنها ؛ فهل في هذا ما يمس العقيدة في شيء ؟
بل هل هذا إلا محض الإيمان؟ والإيمان بالشفاعة من الأمور التي يتميز بها أهل السنة والجماعة بخلاف بعض المبتدعة الذين أنكروا شفاعتهُ صلوات الله وسلامهُ عليه.
وأنني أستغرب كيف أن بعض الناس يستفزه أن يوصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أكرم الخلق …! علماً بأن هذهِ الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسَلَّمات عند المسلمين، والأحاديث التي تؤكد هذا المعنى كثيرة جداً مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: [ أنا أكرم ولد آدم على ربي ] أخرجه الترمذي و الدارمي ومثل قولهِ صلى الله عليه وآله وسلم :[ أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ].
وأما قولهُ : مالي من ألوذ بهِ ، فهو من الأمور المسلمة عند من يقرأ أو قرأ حديث الشفاعة العامة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تقدمت الإشارة إليه ، وهذا المقام الكريم ثابت لرسول الله في القرآن قبل السنة ، قال الله تعالى:] ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً[الإسراء.
ولا ندري ماذا سيقول المعارضون في مقولة سيدنا حسان بن ثابت كما في أسد الغابة عندما قال :-
يا رُكن مُعتمد ٍوعِصمةلائذٍ : وملا ذَ مُنتجع وجار مُجاورٍ
وسميت الشفاعة العظمى بالمقام المحمود، لأن جميع الخلق المؤمنين، والكافرين، الأتقياء والفجار يحمدون لهُ هذا الموقف.
وكونهُ صلى الله عليه وآله وسلم ( الملاذ الوحيد ) يومئذٍ واضح جلي، فكل الأنبياء والمرسلين يعتذرون عن الشفاعة في ذلك المقام وكلهم يقول: نفسي نفسي.
وقد يسأل متحذلق: لم لا يلجأ الإنسان إلى الله تعالى مباشرة في ذلك اليوم الذي هو فيه أحوج ما يكون إلى الإخلاص ؟
والجواب كما بينه الناظم بقوله : (…… إذا الكريم تجلى باسم منتقم) .
ففي ذلك المقام لا يجرؤ أحدٌ من الناس بمن فيهم الأنبياء على طلب أي شيء فيهِ تخفيف أو رحمة من الله تعالى لشدة غضبهِ الذي يصفهُ الأنبياء جميعاً بقولهم:[ إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثلهُ، ولن يغضب بعدهُ مثلهُ ] كما هو في حديث الشفاعة.
إذاً لابد من شافع ، وهذا الشافع هو الحبيب الأعظم والسيد المكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتأمل حديث الشفاعة تجد هذا بيناً واضحاً لا ريب فيه ولا شك ولا لبس.
واما قول البوصيري رحمهُ الله :ـ
فإن من جودك الدنيا وضرتها ***** ومن علومك علم اللوح والقلم
شرح البيت
قال الشيخ خالد الأزهري: [ وإِنّ خيري الدنيا والآخرة من جودك، وعلمي اللوح والقلم من علمك، وأنت الحقيق بذلك، والمعول في الشفاعة عليك ] .
وقال الشيخ إبراهيم الباجوري صاحب الجوهرة وهو أحد شراح البردة وهو ممن ولي مشيخة الأزهر في القرن الثالث عشر من الهجرة ما نصهُ:- [ والمراد من الدنيا ما قابل الأخرى، ولذلك جعلها الناظم ضرتها، وفي كلامهِ تقدير مُضاف إي خيري الدنيا هدايتهُ صلى الله عليه وآله وسلم للناس، ومن خير الآخرة شفاعتهُ صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ] . فأي إشكال في هذا الفهم يا عباد الله؟
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفض الدنيا بما فيها زاهداً فيها فضلاً عن تملُكها ثم الجود بها، والأحاديث في هذا متوافرة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: [ أوتيت مفاتيح كُل شيء إلا الخمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ] فرفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الدنيا واختار أن يكون عبداً يأكل يوماً ويجوع يوماً…
ثم إقدامهُ عليه الصلاة والسلام على الشفاعة يوم القيامة عندما يحجمَ الأنبياء كلهم لا تهمهم إلا أنفسهم، فيتصدى أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم – بأبي هو وأمي – للشفاعة حتى يرضى الله سبحانه بعد غضبه وتزول الأهوال والشدائد عن الناس، فأي جود يريده الناس بعد ذلك؟! بل إن رتبة الجود لتنزل عن هذه الرتبة العظيمة.
ثم إن الدنيا والآخرة وجدتا من أجل رسالة الإسلام التي عليها من كلفهم المولى بقولهِ ( وما خلقتُ الجن والأنس إلا ليعبدون ) ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمثل هذا الإسلام، بل هو الإسلام الفعلي الواقع والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: [ اللهم إن تُهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض ].
وقد قال الله تعالى: ] والأرض وضعها للأنام[ والأنام هم الخلق وأفضلهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن باب أولى أنها له صلى الله عليه وآله وسلم وقال تعالى:] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ً[
ثم إن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، كما جاء في الحديث الشريف , فلا يرضى الله عز وجل أن تكون الدنيا كل ما أعطي لحبيبه صلى الله عليه وآله وسلم .
ولابد من الإشارة في شرح بيت البوصيري أيضاً: فإن من جودك الدنيا وضرتها… إلى أن العرب استعملوا المجاز، وهو أسلوب من أساليب العربية المتفق عليه، ومن نفاهُ فقد نفى عن العربية بعضاً من الفصاحة.
وفي كلام الشاعر البوصيري رحمه الله تعالى في هذا البيت نجد استعمالهُ للقرينة السببية في علاقة المجاز المرسل، فكأنه أراد: إن من جودك هداية الناس في الدنيا، وهذه الهداية موصولة لرب العالمين وهي سبب الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ومن جودك أيضاً الشفاعة في الآخرة، وهي علاقة مجاز على القرينة السببية وفي القرآن الكريم : ] وينزل لكم من السماء رزقاً[ . أي ما ينزل هو الماء الذي هو سبب الرزق المتنوع الأشكال .